الخمرة الحقيقية

2 أكتوبر

حينما كان الأمبراطور نينج (وهو صديق قديم جداً، حكم الصين في العام 2700 قبل الميلاد تقريباً) عائداً من زيارة أحدى المدن، قرر أن يرتاح تحت الشجرة، ولإنه من الاباطرة المهتمين بصحتهم، فقد كان يشرب الماء ساخناً. وأثناء تسخين الماء، وقعت أوراق من ورق شجرة الكاميليلا في الماء، ولما شربه صديقي الأمبراطور.. كانت رشفته تلك سبباً في أختراع تبلغ قيمته اليوم مليارات الدنانير.. لقد أكتشف الشاي!!

هذا المشروب الأسطوري الذي يبلغ عمره خمسة آلاف سنة،ويشرب ابيضاً وأخضراً وأحمراً واسوداً، هذا المشروب الذي يتنافس مع القهوة والكحول والمشروبات الغازية على شفاه البشر حول العالم، هو الأصح و الأطيب والأفضل من بين تلك المشاريب..

الغريب أن الشاي بأنواعه التي تصل إلى أكثر من 10,000 نوع تنبت من شجرة واحدة! ولكن السبب في تنوع طعمه هو توقيت القطفة وطريقة التحميص والاعداد ومكان زراعة الشجرة.. والأكثر صحة هو الشاي الأبيض… والاسوأ والأردأ هو الأسود (الذي نشربه صباح مساء).

أكتب هذا المقال وأنا أعود من جنوب الصين، أو بالأحرى جنوب قارة الصين الشعبية! حيث مررت على مدن رائعة الجمال كانت تشكل مناطق مهمة من “طريق الشاي والخيول” وهذا الطريق كان يوازي في عظمته طريق الحرير، لإن هذا الطريق الذي يبدأ من مدينة بو-ريه PU-ERH في جنوب غرب الصين ويمتد أساساً إلى مناطق التيبت ويغذي كل من بورما و شمال الهند ولاوس والفيتنام، وعن طريق التيبت والهند كان الشاي يصل إلى العالم الاسلامي، حيث أكتسب الشاي افضلية خاصة خصوصاً في ظل تحريم الخمر لدينا، حيث تحول الشاي إلى “خمرة العرب” كما يصفه النجفي في قصيدته الرائعة عن الشاي. والتي يقول في أحد ابياتها:

فلله أرض الصين إذ أنبتت لنا ***              ألذ نبات بالمسرة مثمر

دع الرح و الأفيون واشرب عصيره*** مداماً، ولا تشرب مدامة حيدر

 

ويلاحظ وجود عدد كبير من المسلمين في جنوب الصين، ويعود الفضل الكبير في ذلك للتجارة وخصوصا الشاي، حيث بدأ الكثير من تجار العرب بالسفر لإحضار الشاي من جنوب الصين وانتهى بهم الأمر (كما هي عادة العرب الكريمة!) في الزواج من الصينيات و إنجاب أجيال مسلمة عاشت وتربت في جنوب الصين. (يصل عدد المسلمين في الصين لأكثر من 100مليون مسلم، بينما تصر الحكومة الصينية على أنهم 20 مليون فقط! لاسباب سياسية).

 كما أدت تجارة الصين غلى إنتشار البوذية بشكل كبير في جنوب الصين، لإن طريق الشاي والخيول، كان يقتضي أن يبيع الصينيون الشاي إلى التيبتيون مقابل الخيول التبيتية (انظروا إلى قيمة الشاي)، حيث أنتشر الشاي بين البوذا واصبح من ضمن حياتهم المقدسة ووسيلة لتشجيعهم على العبادة والتركيز، وقد أضافوا إليه فنون الشاي الكثير، بل إن أول مؤلف كتب في الشاي كتب قبل 1300 سنة من قبل راهب بوذي اسمه “يو لو”تحت أسم أصول الشاي CLASSIC OF TEA وترجم إلى اللغة الأنجليزية وهو مقسم إلى عدة فصول تتحدث عن أسرار صناعة الشاي وتحضيره وشربه بتفاصيل مذهلة للقارئ. وقد قام البوذا بنقل الشاي إلى أمبراطور اليابان، وتعلم اليابانيون صناعة الشاي وطوروها، واضافوا إليها طقوس تقديم وشرب الشاي، وهو طقوس دقيقة وجميلة جدا، ولا توجد لدى الصينين.

في خلال القرن السادس ميلادي نضجت فنون الشاي لدى الصينين بشكل كبير، وتحول من مجرد مشروب عادي إلى دواء وتجارة وركيزة تواصل أجتماعي، وبدؤا في كبس الشاي من نوع (بور- ريه) وهو الشاي الأحمر الفاتح وهو اصح وافضل انواع الشاي الصيني، حيث كبسوه على شكل قوالب مدورة أو مستطيلة، ومع الأيام تحولت هذا القوالب إلى العملة الرسمية للبلد، وكانوا في بعض الأحيان يقسمونها إلى أنصاف أو أرباع إذا قلت قيمة الشيء المشترى عن كبسة كاملة! وفي تلك الاثناء كان الأمبراطور يزور أحد المدن في جنوب الصين، حيث انتشرت ظاهرة “بيوت الشاي”، لتتعدى مفهوم شرب الشاي إلى مراكز أجتماعية يجتمع فيها الناس ويتعارفون (كما هو حال المقاهي المصرية أو المغربية)، وهناك أعجب الأمبراطور برشاقة مقدمي الشاي وفنونهم في خدمة الزبائن، فقرر الأمبراطور أن يجرب بنفسه تقديم الشاي بهذه الطريقة، ولكن تجربته أدت إلى فوضى على طاولة الشاي وتوسخ ثياب المضيفين، فقرر ان يتعلم فن تقديم الشاي، إلا أن التقاليد الصينية تقتضي أن ينحني الجميع للامبراطور، وهو ما يستحيل فعله مع كل كوب شاي يقدمه لأحد مضيفيه(تجري العادة الصينية على شرب الشاي في فناجين صغيرة مثل فناجين القهوة العربية، وقد يشرب الصيني في دقائق بسيطة أكثر من 3 فناجين)، فاقترحوا أن يتم الأنحناء من من خلال أصابع اليد، بحيث يقوم كل شخص يشرب الفنجان بإن يربت على الطاولة 3 مرات من خلال إيماءة باصابع اليد الوسطى والتي ترمز إلى الرأس والكتفين، وقد تحولت هذه إلى عادة يمارسها الجميع ليس مع الأمبراطور فقط، لذا لا تستغرب حينما تشاهد الصينين وهم يربتون على الطاولة بأصابيعهم كلما شربوا الشاي.

والحديث عن اثر الشاي المالي والأقتصادي والاجتماعي يطول ويطول، فتجارة الشاي التي تقودها الشركات البريطانية اليوم، والتي بدأت منذ سيطرة هولندا على هونغ وارسال أول شحنة شاي من إلى أوروبا، ثم الأستعمار البريطاني للهند، وقد حاول كل من اليابانيين و البريطانيين أستعمار جنوب الصين للسيطرة على مزارع الشاي عالمياً، ولكنهم فشلوا، ويعود الفضل في ذلك إلى طريق الشاي، الذي مكن جنوب الصين (محافظة يونن) من التواصل وبيع الشاي بكميات تحميها من أي حصار إقتصادي. واليوم يصل الشاي إلى كل مكان في مشرق العالم ومغربه ومنابعه كلها في آسيا، خصوصاً الصين والهند (حتى الشاي المغربي يزرع في الصين!!)

 اليوم وأنت تقرأ هذه المقالة، ستجد أنجليزيًا يجلس في أفخم فندق في بريطانيا يحتسي شاي العصر، بينما تجد مغربيا يجلس على سواحل طنجة يستمتع بـ “الأتاي” المغربي وهو يتذمر من غلاء الأسعار، وتجد خليجياً استيقظ من قيلولة العصر يشرب شاي اللقاح حتى يتسطيع أن يفتح رأسه ويتحول من التجهم إلى الإبتسامة، وفي نفس اللحظة ستجد مصرياً يشرب شاي “كشري” في كوب زجاجي قديم ويسب ويلعن عبدالناصر والسادات، وتجد فتاة صينية تركب عجلتها وتضع بين فخذيها كأساً زجاجية مقفلة تحتوي على اوراق الشاي لتكون زادها في يوم عصيب، واخيراً هناك مجموعة من المدراء اليابانيين، يجلسون علىمائدة “جيشا” في كويوتو ويتذوقون الشاي وهم يسبون الأمريكان لمحاربتهم سيارات تويوتا!!

والآن عذراً فقد أحضرت لي المضيفة كوبا من “التشا” (أسم الشاي الصيني)، من نوع “وولنج”، لكن أحببت أن اشاركم ببعض أسرار الشاي وتاريخه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: